"وحيدتي و المطر"
ليلةٌ باردةٌ هادئةٌ، أجلس بمحاذاةِ النافذةِ و أراقبُ نسماتِ الهواء تحتضنُ أوراقَ الشجر تارةً و تلوّح بها تارةً أخرى، صوتُ المطرِ يعزفُ ألحانًا قديمةً أعتدتُ الاستماعَ لها برفقةِ أحاديثكِ تلك التي كانتْ تدّبُ الدفء في فؤادي و تُنسيني بردَ الشتاءِ القارصِ، لطالما اعتدتُ الوقوف على النافذةِ لأتأمل هطول المطرِ، كيف يحتضنُ الأرضَ و يرويها و يعيدُها لبهجتها و حيويتها من جديدٍ، كما كنتِ تفعلينَ انتِ بي، مروركِ بي كان أشبه ببداياتِ الشتاءِ، كأول قطراتِ مطرٍ تُلامسُ الأرضَ فترويها و تنبتها من جديدٍ.
أعتقدُ أنّني مُصابٌ بكِ، فأنا أينما حللتُ رافقني طيفكِ، أراكِ في وجوهِ الجميعِ بالرغمِ من عدمِ تواجدكِ، صوتُ أمي الحنونِ يُذّكرني بدفءِ صوتكِ و في ضحكاتُ الأطفالِ لا أرى إلا ابتسامتكِ العفويةَ و ضحكاتك البهيّة التي لم تُفارق ناظري و مسمعي.
مُصابُ بكِ فآتيكِ كأنّه ما لي في الدُنيا إلاكِ، آتيكِ بحزني و تعبي، آتيكِ في خضمِ الحروب التي تدورُ داخلي، آتيكِ بشرودي و وحدتي، و كأنّكِ المأوى الذي أستكنُ إليهِ كلّما تُهتُ و تشتت طُرقي، آتيكِ و كلّي خرابُ و متيقنٌ بأنّك دواءُ دائي، ترتيبُ أفكاري و لململةُ شتاتي.
أيا أنا، غيّرتِ بيّ الكثيرَ حتى ما عُدت أدركُ ذاتي، فأنا و منذُ أن ألتقيتكِ نسيتُ كيف حييتُ قبلكِ، فبقربكِ أنا مُطمئنٌ، هادئ البالِ ما من شيءٍ يشغلني و يؤذيني، كأنّكِ ملاذي الذي لطالما حلمتُ أن ألقاهُ، كأنّك استجابةُ دعواتِ جوفِ الليالي، و كأنّك أمنيتي اللتي طلبتها من اللهِ في كُلّ قيامٍ.
ألفتكِ كما لم أألف أحدًا من قبل، و كأنّكِ خُلقتِ لألقاكِ، لأحبّك، لأعرف مداركَ الحبّ و معاني الهيام بكِ.
لو أنّك نظرتي إلى عيني لثوانٍ، لرأيتِ شيئًا لم يسبق لكِ رؤيتهُ، داخلي لم يعد يتسعُ لكُلّ هذا الحبّ فباتت عيناي تفيضُ بهِ، أعتدتُ التحديقَ بكِ لأحتفظ بتفاصيلكِ و ملامحكِ في الليالِ التي تخلو منكِ، حتى إن مرّت بي قوافلُ الحزنِ استذكرتكِ فتلاشى حزني و وجمي و استكنَ فؤادي و بقيتُ سارحًا بسحرِ عينيكِ، مفتونًا بجمالِ ابتسامتكِ و حائرًا في ابداعِ خلقِ اللهِ يا كاملةَ الأوصافِ.
اشتّد المطرُ و هبّت عاصفةٌ دويها عالٍ، شتت فكري، و ايقظتني من غفلتي، ماذا حصل؟ اينَ انتِ؟ اينَ أحاديثكِ؟
أنا الآن أجلس الى جانب النافذةِ، يداي ترتعشانِ من البردِ، هاتفي مُغلقٌ، و المطر لم يعد رقيقًا كما كانَ معكِ.
متى رحلتِ عنّي؟ ولمَ فعلتِ بي هذا؟
تطلبَ الأمر مني ساعاتٍ عديدةٍ لأدركَ أنّني هنا أراقب المطرَ برفقةِ ذكراكِ فقط و أنّ كُلّ ما تحدّثتُ بهِ كانَ من نسجِ خيالي و ما كُنتِ جواري، رحلتِ عنّي منذُ حينٍ لا يُذكر، ها أنا و بالرغم من مرور الكثيرِ من الوقت لم أستطع تجاوزكِ، لا زالتْ ذكراكِ ترافقني اينما وطأت، لا زلتُ أراكِ في وجوهِ الجميعِ، صدى صوتكِ يرّن في أذني كلمّا حدّثني أحدهم، لا بدّ انّني حقًا مصابٌ بكِ يا كُل كُلّي، فبالرغم من انتهاءِ حكايتنا، الا انّه يعزّ عليّ الحديثُ عنكِ كماضٍ، فانتِ الساكنةُ داخلَ ايسري ماضيًا، حاضرًا و مستقبلاً، يعزّ عليّ التخلي عن ذكراكِ، فانتِ أعظمُ من أن يحلّ أحدهم مكانكِ و أن تكوني مجرد عابرةٍ، انتِ أنا و يصعبُ عليّ أن أسيرَ دروبي دون نفسي.
آلاء عبد الجبار كايد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق